<
الرئيسية » اهم الأخبار » كورونا ونظام الأمن الجماعي

كورونا ونظام الأمن الجماعي

ابدأ بسؤال: هل ستكون تجربة الصراع العالمى مع كورونا دافعا إلى أن يبحث العالم فى مدى ملاءمة نظام الأمن الجماعى الذى تضمنه ميثاق الأمم المتحدة لحماية السلم والأمن الدوليين؟

عندما جاءت عاصفة الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وبعد أن لاحت بوادر النصر للحلفاء بعد معركة العلمين التقى عدد من خبراء القانون والتنظيم الدولى فى اجتماع تبنته إدارة الرئيس روزفلت فى ضاحية دومبارتون أوكس بواشنطن وكان الهدف هو دراسة وضع تنظيم دولى جديد بعد أن فشل نظام عصبة الأمم فى منع دول المحور الثلاث ألمانيا وإيطاليا واليابان من الاعتداء على الدول المجاورة لها مما أدى إلى اندلاع أكبر حرب عرفها التاريخ.
كان المجتمعون يمثلون الحلفاء المنتصرين فى هذه الحرب ومن هنا جاءت الدعوة لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو مقصورا على الدول المنتصرة ما دعا المرحوم أحمد ماهر رئيس وزراء مصر إلى إعلان الحرب على دول المحور حتى يكون لمصر مقعد فى مؤتمر المنتصرين بسان فرانسيسكو الذى وضع ميثاق الأمم المتحدة وتم توقيعه فى 24 أكتوبر 1945 وقد دفع المرحوم أحمد ماهر باشا حياته ثمنا لهذه الخطوة باغتياله فى البهو الفرعونى للبرلمان، بينما كان متوجها من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ.

ربما كان من أهم ما جاء فى الميثاق هو نظام الأمن الجماعى الذى أودع فى مجلس الأمن مسئولية الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وعندما أصيب المجلس بالشلل نتيجة استخدام الاتحاد السوفيتى للفيتو فى الأزمة الكورية ابتدع الفكر القانونى الأمريكى سبيلا للالتفاف حول المجلس بإصدار ما يعرف باسم قرار الاتحاد من أجل السلم والذى يمكن بواسطته للجمعية العامة للأمم المتحدة إصدار قرارات تهدف للحفاظ على المسئولية الجماعية للأمن، وربما كانت مصر هى أول من استفاد من هذا القرار بعد الحرب الكورية عندما قامت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل بالعدوان على مصر عقب تأميم قناة السويس (29 أكتوبر 1956) ولجوء كل من إنجلترا وفرنسا بصفتهما دولتين «عضوتين دائمتين» بالمجلس لاستخدام الفيتو لتعطيل صدور قرار وقف العدوان فلجأت الدولتان الكبيرتان الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى إلى قرار الاتحاد من أجل السلم ونقلت المسئولية للجمعية العامة وأمكن تعبئة الرأى العام الدولى وإصدار القرارات اللازمة لوقف العدوان وتشكيل قوات الطوارئ الدولية للإشراف على انسحاب القوات المعتدية من الأراضى التى احتلها، وكانت هذه الحقبة هى أزهى عصور الأمم المتحدة قاطبة.

وظلت السويس نقطة التحول التى قادت إلى حركة التحرر الكبرى وتصفية الاستعمار فى إفريقيا.

ذهبت هذه الحقبة ثم جاءت حقبة أخرى كان أبوها الروحى هو هنرى كيسنجر الذى قال ان الحفاظ على السلم والأمن الدوليين يتم أساسا من خلال السياسات الواقعية وتوازن القوى. فى هذه الحقبة جرى أكبر تكديس للأسلحة النووية فى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى مما جعل توازن القوى بينهما يتحول إلى توازن للرعب.

وبانهيار الاتحاد السوفيتى ومجيء عالم القطب الواحد جرت أكبر حرب يشهدها العالم تكون قائمة على أساس من الأكاذيب وتلفيق الأدلة وهى الحرب على العراق عام 2003، وبمجيء الرئيس ترامب تحول مبدأ توازن القوى إلى مبدأ آخر هو مبدأ أمريكا أولا ثم جاءت كورونا لتثبت أنه لا عاصم حتى للولايات المتحدة من عدوان يشنه الفيروس. عبرت كورونا القارات والمحيطات ونفذت مباشرة إلى جسم الضحية التى يمكن أن تكون على سبيل المثال رئيسا لوزراء عضو دائم بمجلس الأمن.

كورونا ، هذا الفيروس الذى لا يرى بالعين المجردة أوقف كل الدول على قدم وساق… لم يكن هناك من عاصم سوى الطهارة والنظافة الشخصية والعزلة والاعتزال كما نراه الآن فى كل بقاع الأرض. يطرح السؤال نفسه: هل أصبح نظام الأمن الجماعى فى خبر كان؟ لقد جاء مفهوم الأمن الجماعى على يد المنتصرين فى الحرب العالمية الثانية فمن سيكون المنتصر فى صراع العالم مع كورونا ؟ لن يكون المنتصر فقط هو مجموعة من الدول بل ستكون الإنسانية جمعاء بإذن الله والحرب مع كورونا لم تكن بالسلاح النووى ولكن بالعلم: «ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون». سورة البقرة آية 151.
كيف سيكون إذن نظام الأمن الجماعى بعد كورونا أو ما يجب أن يكون؟ سيكون المحور الرئيسى قائما على التعاون الدولى، وهو بدوره أحد مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بل إن الأمن الجماعى لا يتحقق إلا من خلال التعاون بين الدول وستزداد أهمية هذا المبدأ الوارد بالتنظيم الدولى أكثر من أى وقت مضى.
قرأت أخيرا مقالا لهنرى كيسنجر وهو يتحدث عن كورونا وأخطاره الداهمة، لم يتحدث عن نظرية الواقعية السياسية أو توازن القوى كما كان يتحدث فى الماضى بل تحدث عن الحاجة الملحة للتعاون الدولى. ونشر ريتشارد هاس مدير المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية فى العدد الأخير من مجلة شئون خارجية مقالا عما سيكون عليه العالم بعد عاصفة كورونا ويرى هاس باختصار أن العالم سيكون مزيدا مما كان عليه.

ما يهمنى فيما أكتب ليس التحليل وإنما ما أرى أن مصر يمكن أن تطالب العالم به. اعتقد أن فترة ما بعد كورونا ستكون فى الأغلب فترة سيولة فى الساحة الدولية وبالتالى أرى أن مصر يمكن أن تتبنى مبادرة تنطلق من أن كورونا لم تكن حربا مع دولة أو مجموعة من الدول بل كانت حربا على الإنسانية جمعاء أى مع كل الدول. سيكون العالم أو الإنسانية جمعاء بإذن الله هى المنتصر فى هذا الحرب وبالتالى علينا أن ندرس ما تكون عليه الحال مثلما فعل المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية عندما درسوا ما كان العالم عليه قبلها.

الدرس الأساسى الذى يجب أن يستوعبه العالم هو أن تكديس أسلحة الدمار الشامل طوال خمسة وسبعين عاما الماضية وما كلفته من تريليونات الدولارات لم يحقق أمنا حتى للذين كدسوا هذه الأسلحة، وأن الذين دعوا إلى نظرية الواقعية السياسية وتوازن القوى وأن الدولة التى اعتبرت نفسها قبل الجميع هى أكبر دولة بها ضحايا ل كورونا اليوم.

أريد أن تدعو مصر إلى العودة إلى المفهوم الحقيقى للأمن الجماعى أى الأمن للجميع وبالجميع. مصر من حقها أن تنبه العالم إلى أن ثمة حقيقة يجب ألا ننساها وهى أن العالم أجمع كان طرفا فى هذا الصراع فى مواجهة العدو الخفى كورونا وأن من حق المنتصر أن يستوعب الدرس ويدعو إلى مستقبل أفضل للعالم ونفكر فى إطار الحفاظ على الصحة العامة لكل العالم. وهنا قد يظهر مبدأ جديد يتجاوز الصحة العامة أى الصحة العامة العالمية وستحتاج الإنسانية إلى مؤسسات أكثر فاعلية لحفظ الصحة العامة العالمية للإنسان وما يلزم لها من مؤسسات البحث العلمى وتنظيم دولى للصحة العامة العالمية. تصبح الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل أشياء لا معنى لها وأن الإنفاق الذى يخصص لها ينبغى أن يذهب إلى ما هو أبدى لتحقيق الصحة العالمية والرخاء العالمى.

أعلم أن الكثيرين ممن سيقرأون هذا الكلام سيقولون إنه صادر عن نظرة مثالية لا تنتمى للواقع. ربما نكون اليوم أحوج إلى نظرة مثالية بعد أن رأينا كم كلفتنا نظريات الواقعية السياسية وتوازن الرعب وتفوق دولة على بقية الدول كم كلفنا وكلف البشرية وأنه الأجدر بنا اليوم أن نستلهم المثل العليا من أجل عالم ما بعد كورونا .