<
الرئيسية » المكتبات الإقليمية » عائداً إلى عزبة البرج..

عائداً إلى عزبة البرج..

عائدا إلى عزبة البرج…

في مشهد عمره خمسة وستون عاما ولكنه بقي محفورا في ذاكرتي حتى الآن… كان ذلك يوم أن غادرت في أول رحلة لي خارج مصر إلى نيويورك لأكون ملحقا دبلوماسيا ببعثة مصر لدى الأمم المتحدة وكان ذلك في الأسبوع الأخير لشهر سبتمبر 1955

جاء أبي ومعه مجموعة من أهلي لتوديعي بمطار القاهرة الدولي كان أغلبهم أبناء عمومتي… كان السلام الحار بالأحضان والقبلات… وأنا ذاهب إلى هذه البلاد البعيدة… وراء البحار… مشهد لا أنساه أبدا…

لم يكن سفري إلى نيويورك مجرد سفر عادي… بل كان أيضا بداية الرحلة الدبلوماسية في رحلة العمر…

عدت من هذه الرحلة في فبراير عام 1960… ثم سافرت مرة أخرى مرة أخرى ومرات سواء إلى آسيا سفيرا في باكستان…  أو في أوروبا مرتين كلاهما في جنيف إلى أن عدت من آخر منصب شغلته أي منصب سفير مصر لدى الولايات المتحدة نوفمبر 84 – يوليو 92 ثم سافرت بعد ذلك وسافرت سواء للاشتراك في ندوات أو مؤتمرات أو إلى غير ذلك من نشاط فكري في إطار زيارات نظمها المجلس المصري للشئون الخارجية أو إلى غير ذلك من مؤتمرات… ولأسباب شخصية بحتة… وقد توقف سفري في هذا الإطار منذ ظهور وباء كوفيد 19… ولكن لم يكن هناك لأي من هذه السفريات طعم السفرة الأولى

وعبر الأعوام الخمسة والعشرين الماضية بدأت رحلة ملأت حياتي لم أكن أتوقعها بل ولم تخطر على بالي قبل أن أبدأها. وتلك هي رحلتي الثقافية التي بدأت في عام 1994 باختياري رئيسا لمجلس إدارة مكتبة مصر العامة وهو عمل تطوعي ليس له أي مقابل مادي… ولكنه أصبح يملأ عليَ حياتي… واليوم حين استعرض ما تم في هذه الرحلة الثقافية في مجال المكتبات العامة وكيف أننا نستعد اليوم لافتتاح المكتبة العشرين من مكتبات مصر العامة فإنني أشعر والحمد لله بالرضا والامتنان ويبقى افتتاح هذه المكتبة ذات الرقم العشرين ليمثل لي إنجازا استثنائيا… فهذه المكتبة في بلدتي التي تركتها وأنا ابن السابعة عشر… لأعود إليها وأنا في أواخر الثمانينات من عمري… لافتتاح هذه المكتبة المتفردة..

أذهب إلى عزبة البرج للمشاركة في افتتاح مكتبتها فأشعر وكأنني عائد من الرحلة الكبيرة التي بدأت بنيويورك في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 1955.

عندما تركت عزبة البرج آنذاك كان الحال غير الحال… اليوم أعود لأجد المياه الجارية وقد ملأت المواسير والكهرباء ملأت بنورها البيوت والمحلات والشوارع. اليوم أعود وقد انتشرت المدارس الابتدائية في عزبة البرج والبلاد المحيطة بها… بم يعد أبناء عزبة البرج محتاجين للسير على الأقدام إلى المدرسة بدمياط عندما تهطل الأمطار وتتعطل الطرق وبالمدينة العتيدة دمياط توجد جامعة واحدة… يرأسها ابن من أبنائها بعد أن أصبح علما في مجاله العلمي… أعود لأرى رأس البر في البر الغربي وقد تحولت إلى مدينة عامرة بالمرافق أعود لأرى سفن الصيد وقد تحولت جميعها من سفن تعمل بالشراع لسفن تعمل بالموتور… وكذلك الحال بالنسبة لسفن النقل… بل لتكون هناك ميناء جديدة وممتازة تقارن مواني البحر المتوسط… تؤمها سفن الحاويات… وتتوافر فيها صناعات هامة في مجال غاو البحر المتوسط وتسييله ونقله…

لم تعد دمياط مجرد مدينة تاريخية بل أصبحت مدينة تصنع التاريخ وأعود للتفكير في كيف كانت البداية… بداية قصة مكتبة مصر العامة بدمياط التي تتفرع عنها اليوم مكتبة عزبة البرج… كم كانت دمياط محظوظة بعدد من المحافظين المثقفين الموهوبين والذين يحلمون بأن ينشروا الثقافة في دمياط… يرد إلى ذهني هنا ثلاثة محافظين الدكتور عبد العظيم وزير الذي بدأ التعاون معه لإنشاء مكتبة دمياط… ثم جاء المحافظ المبدع الدكتور محمد فتحي البرادعي الحائز على درجة الدكتوراه من كلية Beaux Art بباريس وليكون هو المحافظ الذي أسس مكتبة عزبة البرج ليختار الموقع المطل على النيل وبصدر قرار التخصيص ويرسم بريشته العبقرية الكيان المعماري لهذه المكتبة.. ثم تأتي الدكتورة منال عوض لتكون هي المحافظ الذي أتم هذه المكتبة.. وأخرجها إلى حيز الوجود وكم هي محظوظة مكتبة عزبة البرج والبلاد المجاورة لها محافظا يضع أساسها ومحافظا يتمها ويستكملها ويعقد اتفاقا مع منظمة الأمم المتحدة لإقامة هذه الحديقة البديعة حولها..

أنا عائد إذن إلى عزبة البرج بلدي ومسقط رأسي ومدينة طفولتي وصباي وأوائل سن الشباب صحيح أنني لا أنسى يوم أن عدت إلى عزبة البرج لأجد المنزل الذي ولدت وعشت فيه قد هدم,,, كم حزنت في هذا اليوم

اليوم أعود إلى بيت من نوع آخر إلى مكتبة مصر العامة بعزبة البرج.

تحية يا أهلى… أهل عزبة البرج الكرام

السفير عبد الرءوف الريدي