<
الرئيسية » اهم الأخبار » الريدي متحدثاً .. عزبة البرج

الريدي متحدثاً .. عزبة البرج

حديث المكتبة 14

اختتم حديثي عن مكتبة عزبة البرج بالتحدث عن المسطح المائي الثالث المحيط بها بعد النهر والبحر وهو بحيرة المنزلة، جزء من الكيان الإقليمي والبيئي للمنطقة.
حسبما يقول واحد من أهم من كتبوا عن بحيرة المنزلة وهو اللواء عبد المنصف محمود في كتابه المعروف “على ضفاف بحيرات مصر” فإن هذه البحيرة لم يكن لها وجود قبل القرن السادس الميلادي وأن نشأتها جاءت نتيجة زلزال ضرب منطقة شمال الدلتا التي كانت منطقة فيحاء تتحدث الكتب القديمة عن ثرائها إلى أن جاء هذا الزلزال فعصف بها فاختفت من الوجود وتكونت على أرضها هذه البحيرة التي أصبحت فيما بعد درة بحيرات مصر وأكبرها مساحة وتبلغ حوالي 750 ألف فدان.
اكتسبت هذه البحيرة اسمها من مدينة تنيس التي كانت مدينة وميناءاً عظيماً بمثابة التوأم لمدينة وميناء دمياط.
يقول المؤرخ الدمياطي العتيد د. جمال الدين الشيال أن مدينة تنيس التي نشأت بين مدينتي الفارما (أول محطة في رحلة العائلة المقدسة) في شرقها، ودمياط في غربها وأنها قد لعبت دورا حضاريا كبيرا في تاريخ مصر الإسلامي، فكانت ثغرا بحريا هاما وبني بها أسطول ودار لصناعة السفن، كما كانت مركزا من أهم مراكز صناعة النسيج الرفيع، وبها كانت تصنع كسوة الكعبة المكرمة لقرون طويلة، وإلى جانب الاشتغال بالنسيج كان أهلها يمتهنون مهنة صيد الأسماك والطيور.
أشير أيضا إلى المخطوط النادر “أنيس الجليس في أخبار تنيس” الذي لم يتبقى منه إلا صفحات قليلة حققها الدكتور الشيال، وجاء بهذا المخطوط أنه كان هناك أكثر من مائة من الطيور. التي كانت تعبر إلى بحيرة تنيس:
“الجراد، الصرد، الحسيني، الصدا، اللسنة، أبو الحنا، برقع أم علي، برقع أم حبيب، القمري، در ندر مالي، الراهب، الشماس، الخضير، الصقر، الهدهد، وارية الليل، وارية النهار، البلسنير، الضريس، الأطروش الشامي، البصبص، الأخضر، أم السمان، أم المرتحة، صدر النحاس، أبو سار، أبو كلب، ديك الكروم، الفرافير، القطاس، الأوز، البط، البعصص، الأزرق، رقشة زرقاء، الزرزور، الخفاش، الزاغ، الغراب، الأبقع، كسر اللوز، كسر الجوز، الدبس، الغابة، الصقر، الفحمى، الحدأة، الحملة، السلسلة، البوم، الواق، الهام، الباشق، الشاهين، السمان، المرعة، السلوى، الملوح، البرير، الرخمة، الليش، البرنسي، الزجاجي، أبو فيروز، القرط، البون، الشراشير، اللفات، البشروش، البط البري، البلجون، أبو قلمون، الكروان البحري، الكروان الجرفي، القرلا، الحروطة، الحصفة، الحمراء، البوشة، أورث، المطون، الهيكة البيضاء، فاربة، جوحه، بليقا، اربوحية، بطميس، تيلاوه، سكسه، المجنونة، الرفادة، السقس، قرد مصر، الوطواط، البجع، الكركي، العريض، الخطاف، الخوطوم”
كما ذكر أكثر من ستين نوع من أسماء الأسماك:
“البوري، البلبيس، الليت، البرو، الاراث، النسا، الشكين، الطوبار، القلادن، البلل، البلطي، الإبلبل، القشمار، الزلنج، الاكلت، القونج، القجاج، الدونيس النقط، القرقراج، اللاج، الحبار، التون، الأحناش، الانكليس، المقيثة، الخف، اللات، الحبلا، الماص، المشط، القنا، حوت الحجر، السنور، الراي، الابرميس، اللبيس، سيف الماء، حدأة الماء، الشطون، اللجا، القرش، الحسة، كلب الماء، السرطان، التمساح، السرنوب، الصبح، أم الأسنان، الدلفين، العميان، النسانس، الرعاد، البلستين، الاقونس، القنديل، المجرة، الليف، الحلبوه، القماريس، الآبنوس، القرندس، الديليس.
ظلت مدينة تنيس تقوم بهذا الدور الحضاري العظيم إلى أن جاء القرار العجيب عام 1227 للملك الكامل الأيوبي بعد الحملة الصليبية الخامسة (حديث المكتبة 13) بتدمير المدينة عن بكرة أبيها حتى لا تظل مطمعا للغزوات الصليبية القادمة سواء من أوروبا أو من الممالك الإفرنجية التي تأسست في بلاد الشام، وبالمناسبة كانت دمياط أيضا قد صدر بشأنها قرار من المماليك البحرية مماثل، إلا أن الله كتب لها البقاء وإعادة البناء بعد أن كان قد دمر أغلبها.
ظلت البحيرة بعد تدمير تنيس باسمها الجديد “بحيرة المنزلة” نسبة لمدينة المنزلة بحيرة عظيمة تكتسب مياهها من البحر المتوسط ومن نهر النيل خاصة في فترة الفيضان.
قدر الله لي أن أرى هذه البحيرة وهي في زهوها حيث كنت في طفولتي أذهب مع المرحوم أخي الأكبر محمد وأرى منظر الطيور الزاهية على شاطئ البحيرة، كما قدر لي أن أراها بعد ذلك في أواخر الستينات بعد إنشاء السد العالي وغياب الفيضان عن مياهها.
والواقع أن هذه البحيرة كانت جزءاً من المنظومة البيئية لمنطقة شمال الدلتا وهي تندرج فيما يسمى بالأراضي المبتلة wet lands مثل البراري ذات المياه الضحلة، وقد ظل إنتاجها من السمك والطيور انتاجا وفيرا ومن أشهى ما يمكن أن يقدمه المطبخ الدمياطي.
بعد ذلك وخلال الخمسين أو الستين عاما الماضية تعرضت هذه البحيرة الجميلة إلى قرارات نالت منها ومن قيمتها وجمال طبيعتها وإنتاجها البحري.
كان أول ما جرى هو البدء بردم أجزاء من البحيرة فأصبحت مساحتها 125 ألف فدان بعد أن كانت ٧٥٠ ألف فدان، إلا أن الأدهى من ذلك ما جرى من تلويث مياه هذه البحيرة حيث أصبحت مستودعا للصرف الصحي والصرف الزراعي وربما الصرف الصناعي، فبعد أن كان الناس يبحثون عن أسماكها أصبحوا يبتعدون عن هذه الأسماك التي أصابها التلوث البيئي وأصبحت جزرها مرتعا للخارجين عن القانون بمختلف أنواع الخروج عن القانون.
أثناء عملي سفيرا في واشنطن زرت العديد مما يسمى بالمحميات الطبيعية National Parks ومن بينها مسطحات البراري ذات المياه الضحلة وفي مرة من المرات كنت أبحر لعدة أيام مع مجموعة من الأصدقاء في نهر كولورادو العظيم، وهو محمية طبيعية وكان محظورا علينا أن نستخدم الصابون العادي في الاغتسال من مياه النهر بل علينا أن نستخدم صابونا معالجا حتى لا تتلوث مياه هذا النهر ولم يكن أحد يجرؤ على أن يلقي في النهر أيا من الفضلات مهما صغرت.
وقد كان من نتائج تلوث السمك بالبحيرة وابتعاد الناس عن شرائه أن بدأ الصيادون في البحيرة يبحثون عن مصدر آخر للصيد فاتجهوا للصيد في منطقة البحر الأحمر التي لا يعرفون مياهها وشعابها، وأصبحت هناك حوادث غرق كما تعرض البعض للتصادم مع السفن الكبيرة، وفي عام 2014 وقع حادث من هذا النوع لسفينة باسم “بدر الإسلام” وكان هناك منظرا يدمي القلوب؛ كنا في الشتاء عندما غرقت سفينة الصيد ولم يكن هناك أي وسيلة لإنقاذ صياديها فغرقوا بالكامل، ومن المعروف أن البحر الأحمر منطقة مليئة بأسماك القرش وقد قرأت عن هذا الحادث وكتبت مقالا عن مأساة هؤلاء الصيادين ونبهت إلى أهمية تدريب هؤلاء الصيادين على الصيد في هذه المياه التي لم يتمرسوا في الصيد فيها من قبل وضرورة أن تكون كل سفينة مجهزة بوسائل الإنقاذ للسفينة وللأفراد العاملين عليها وإيجاد وسائل فعالة للاستغاثة حتى يتمكن رجال غفر السواحل من تحديد موقع على تحديد موقع الحادث والتحرك فورا بقوارب سريعة للإنقاذ.
ربما كان على الجانب المشرق أن أخبرني بعض الأهل في عزبة البرج أنه تجري الآن محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بحيرة المنزلة حيث توجد كراكات تعمل ومحاولة جادة لتطهير البحيرة من الخارجين عن القانون الذين توطنوا على جزرها وسيطروا عليها.
أذهب أيضا إلى صفحة مشرقة أخرى في تاريخ بحيرة المنزلة حول انطلاق حركة المقاومة لحملة نابليون بونابرت عام 1798، حيث جاءت قوات نابليون إلى منطقة المنصورة ودمياط وعين نابليون الجنرال فيال للسيطرة عليها فخرجت المقاومة الباسلة للتصدي للقوات الفرنسية من بحيرة المنزلة بقيادة رجل مهاب هو حسن طوبار الذي جمع ما يقرب من ألف مركب من مراكب البحيرة وخرجوا وتحركوا إلى دمياط حتى وصلوا إلى غيط النصارى شرق دمياط وبدأوا بالهجوم على الحامية الفرنسية إلى أن أرسل إليهم نابليون فرقة لمقاتلتهم، وأصبحت القرى الواقعة جنوب دمياط حتى المنصورة بما فيها الشعراء وفارسكور وغيرها مسرحا لعمليات المقاومة والكر والفر بين قوى المقاومة وقوى الاحتلال التي ارتكبت الفظائع ضد بعض القرى مثل قرية ميت الخولي عبد الله التي أباحها الجنرال فيال لقواته فاستولت على ما استولت ونهبت ما نهبت وارتكبت من الفظائع ما ارتكبت مما جعل نابليون نفسه يؤنب الجنرال فيال على مبالغته في اتخاذ هذه الإجراءات.
أصبحت عزبة البرج مركزا آخر للمقاومة في منطقة المصب والبوغاز، كما تم في نفس الوقت أن قام أهل عزبة البرج بالهجوم على الحامية الفرنسية وقضوا على قوة الاحتلال وعندما علم أهل عزبة البرج بالفظائع التي ارتكبها الجنرال فيال في دمياط والقرى المحيطة بها وتأكدوا من أن الدور سيأتي عليهم للانتقام منهم، قاموا بالتجمع في مراكبهم الشراعية وغادروا عزبة البرج إلى بلاد الشام، وقد رأى الفرنسيون بعد إخضاع هذه الثورات تحصين منطقة دمياط فأنشئوا قلعة بعزبة البرج وقلعتين على مدخل البوغاز شرقا وغربا، وأعتقد أن بقايا هذه القلاع مازال موجودا بعزبة البرج في المنطقة التي تشغلها قوات السواحل في جنوب عزبة البرج وفي المنطقة المجاورة للفنار شمال عزبة البرج وأثناء دراستي الثانوية ذهبت إلى المنطقة الواقعة بجوار الفنار وكتبت مقالا نشر بمجلة المدرسة وكنت في السنة الرابعة من دراستي الثانوية، وأعتقد أن وزارة الآثار معنية بإنقاذ هذه الآثار مما سيكون عملا محمودا لها.
أغلب الظن أن مكتبة عزبة البرج ستكون بمشيئة الله المكتبة العشرين في منظومة مكتبات مصر العامة والفرع الثاني لمكتبة مصر العامة بدمياط بعد فرع دمياط الجديدة.
أتطلع إلى اليوم الذي نفتتح فيه هذه المكتبة، وسيكون هذا يوما نقدم فيه الشكر بوجه خاص لشخصيتين يستحقان كل تقدير وعرفان، وهما المحافظ المثقف الدكتور فتحي البرادعي الذي أصدر قرار تخصيص الأرض لهذه المكتبة ورسم بقلمه كمهندس معماري عظيم كيانها المعماري في الموقع الذي اختاره لها، أما الشخصية الثانية فهي الدكتورة منال عوض محافظ دمياط المثقفة وذات الإرادة الحديدية والقدرة الإدارية الفذة التي بنت على ما بدأه الدكتور البرادعي لينال أهل عزبة البرج وما حواليها هذه المكتبة التي ستكون بمشيئة الله مركزا للإشعاع الحضاري ومنارة جديدة من منارات مكتبات مصر العامة على النيل والبحر.
السفير عبد الرءوف الريدي
رئيس مجلس إدارة مكتبة مصر العامة