<
الرئيسية » المكتبات الإقليمية » الاستعدادات لافتتاح مكتبة مصر العامة عزبة البرج

الاستعدادات لافتتاح مكتبة مصر العامة عزبة البرج

الريدي مكملاً سلسلة أحاديثه عن منظومة مكتبات مصر العامة بكل محافظات الجمهورية

حديت المكتبة 13
يتصادف أنني أكتب هذا الجزء من حديث المكتبة بينما يجري الاستعداد لافتتاح مكتبة عزبة البرج لتنضم إلى مكتبات مصر العامة التي ارتبطت حياتي بها منذ بدايتها طوال ربع القرن الماضي. الملك لويس في الأسر
عزبة البرج هي بلدي رأيت فيها قرص الشمس يبزغ من بحيرة المنزلة ليتوسط السماء فوق نهر النيل ظهرا لأراه يسقط وقت الغروب رويدا رويدا في البحر حتى يتلاشى.
ودمياط هي عزبة البرج، كما أنها رأس البر ومرج البحرين بينهما، وهي بطبيعة الحال المدينة العتيدة وعاصمة المحافظة التي تحدها شمالا محافظة بورسعيد وجنوبا محافظة الدقهلية(المنصورة).
كانت دمياط يوم تولى محمد علي أهم الثغور المصرية وأعظمها تجارة… وكان بها حوالي ثلاثين ألف نسمة يوم كان تعداد الإقليم المصري كله أقل من ثلاثة ملايين، وكان عدد سكان المنصورة عشرة آلاف والإسكندرية ستة آلاف نسمة (دمياط منذ أقدم العصور، نقولا يوسف ص ٢٤٥)، وفي هذه البقعة تفتحت مداركي وتولدت أحلامي.
دمياط الموقع تبدأ من هذه النقطة العبقرية ملتقى النهر بالبحر أو مرج البحرين حيث تنتهي رحلة الستة آلاف وستمائة وخمسين كيلو متر لنهر النيل شريان الحياة من المنابع حتى المصب.
شهدت هذه المنطقة في القرن الماضي تطورا مفصليا اتصل بالموقع والتاريخ ويرتبط بفيضان النيل، سجلته في كتابي “رحلة العمر” ص 31
“كان فيضان النيل هو المتغير الوحيد الذي يأتي في شهر أغسطس من كل عام جارفا بقوة مياهه المختلطة بالطمي إلى البحر عبر المصب فيأتي الخير العميم في البحر والبر؛ يأتي السردين في جزر عائمة، ويأتي السمان في أسراب مهاجرة، وينضج البلح على النخيل. ما لبثت أن تغيرت هذه الظاهرة التي استمرت عبر القرون، ففي خلال عقد أو عقد ونصف أصبحت القوارب تعمل بالموتور وليس بالشراع… ودخلت الكهرباء إلى البيوت والمحال وجرت المياه في المواسير ثم –وهذا الأخطر- توقف الفيضان عن المجيء .بعد بناء السد العالي في أوائل الستينات”.
شهد مدخل دمياط من البحر الكثير من مشاهد التاريخ ومن أهمها الحروب الصليبية التي استمرت في مجموعها لما يقرب من ثلاثة قرون، أما الحروب الصليبية في دمياط فيمكن القول بأن البداية كانت من عام 1169 أما النهاية فكانت في 1250.
تبين للإفرنج بعد أكثر من قرن من احتلالهم للعديد من المدن والقلاع في الشام الأهمية الجيوستراتيجية للعلاقة بين مصر والشام وأن مصر قد أصبحت حصن الإسلام الحصين فهي التي تزود المسلمين في الشام بالمدد في الأفراد والمؤن، قر قرارهم على غزو مصر وإخضاعها.
كان خط الدفاع الأول عن مصر في الأبراج المنيعة على مدخل دمياط شرق وغرب النيل والسلاسل المتينة التي تربط بين الأبراج على الجانبين وتحول دون دخول السفن الغازية من البحر إلى نهر النيل لتصل إلى مدينة دمياط الواقعة على بعد أربع عشر كيلو متر جنوب المصب.
ليس المجال هنا كتابة تاريخ الحروب الصليبية لمصر فهناك المراجع الكثيرة في هذا الشأن، وأرشح للقارئ كتابين كتبهما كاتبان دمياطيان الأول أستاذ التاريخ الدكتور جمال الدين الشيال “مجمل تاريخ دمياط: سياسيا واقتصاديا” (75 صفحة)، وكتاب الأستاذ نقولا يوسف “تاريخ دمياط منذ أقدم العصور” (520 صفحة).
ما يسمح به المجال هنا هو أن أورد بعض اللمحات أو الملامح التي تشير إلى تاريخ دمياط الثري والمثير في نفس الوقت.
كانت بداية تحرك الإفرنج إلى مصر في عام 1169 م وكان صلاح الدين لا يزال وزيرا للخليفة الفاطمي العاضد.
وصلت إلى ساحل دمياط نحو ألف مركب تحمل مائتي ألف فارس وراجل نزلوا على البر الغربي (حيث رأس البر الآن) وحاصروا دمياط لثلاثة وخمسين يوما.
خرج صلاح الدين لمواجهتهم، بينما كان يناوشهم من الشام نور الدين أحد مؤسسي الحقبة الأيوبية فأصبح الفشل ماثلا لهم فقرروا فك الحصار والعودة من حيث أتوا بعد أن غرقت لهم نحو ثلاثمائة مركب كما تعرضوا لوباء فتك بكثير منهم.
بعد حوالي خمسين عاما وكان صلاح الدين قد نجح في استرداد بيت المقدس (معركة حطين الشهيرة) وعدد من مدن الشام وقلاعها، جاءت حملتان صليبيتان كبيرتان لم يفصل بينهما أكثر من ثلاثين عاما في النصف الأول من القرن الثالث عشر، كانت هاتان الحملتان بتاريخ تسلسل الحملات الصليبية هما الحملة الخامسة (1218-1221م)، والحملة السابعة في الفترة من (١٢٤٨-١٢٤٩).
الحملة الخامسة:
احتشدت الأساطيل أمام ميناء عكا بالشام من ملوك وأمراء الإفرنج بقيادة جان دي بريين صاحب لقب ملك أورشليم أي بيت المقدس، ثم جاء عدد من الملوك والأمراء بقوات أخرى من أوروبا بينما كانت مصر تحت حكم الملك العادل (اخو صلاح الدين) الذي كان بالشام ويتولى القيادة في مصر ابنه الكامل محمد حيث كان يعسكر في العادلية جنوب دمياط بحوالي ٨ كم .
جاء أسطول الإفرنج في 24 مايو 1218 في خمسمائة سفينة من بينها عدد من السفن الضخمة وعليها سبعون ألف راجل ونزلوا ببرها الغربي في شهر يونيو، وأترك الحديث هنا للدكتور الشيال:
“كان عند مدخل دمياط برج ضخم مشحون بالمقاتلة والسلاسل المعدنية المثبتة فيه تمتد منه إلى برج مقام على الشاطئ الغربي ليحول هذا البرج والسلاسل بين سفن العدو وبين العبور في النيل للوصول إلى المدينة وكان هذا البرج هو مفتاح دمياط.
قاوم البرج مقاومة عنيفة لمدة أربعة أشهر إلى أن بني الإفرنج برجا عاليا ضخما وأقاموه على سفينة كبيرة وتقدموا به تحت وابل من سهام المصريين وقاتلوا قتالا عنيفا إلى أن استولوا على البرج وهو ما سهل لهم الاستيلاء على مدينة دمياط، وعندما علم الملك العادل بذلك وهو في الشام دق بيديه على صدره متأوها ومرض من ساعتها وما لبث أن مات من حسرته بعد أيام”
أوردت هذا المشهد لأنه جرى على مدخل دمياط أي في عزبة البرج ورأس البر وفي الأغلب تكون عزبة البرج قد اكتسبت اسمها من هذا البرج ومن الأبراج التي شيدت قبله وبعده.
استمرت الحملة الخامسة بمشاهدها الدامية لأكثر من ثلاثة أعوام بما فيها احتلال دمياط حتى نصل إلى مشهد الختام.
بعد أن كان القتال بين الجانبين قد امتد لحوالي ستين كم جنوب مدينة دمياط في أشموم طناح أي حيث تم تشييد مدينة المنصورة آنذاك.
جري القتال على جانبي النهر ودمياط تحت الاحتلال حتى جاء تطور هام أدى إلى حسم المعركة لصالح الملك الكامل وتمثل هذا التطور الهام في فيضان النيل الذي كان فيضانا قويا هذا العام فحفرت قوات الملك الكامل القنوات التي ملأتها المياه حتى أصبحت قوات الإفرنج في الوحل محاطة بقوات المسلمين من كل جانب وجفت المؤن لديهم بسبب قطع الطريق على السفن الآتية من دمياط فلم يكن أمامهم سوى أن يطلبوا الصلح والتخلي عن دمياط والعودة من حيث أتوا في الشام وذلك دون قيد أو شرط، ووافق الملك الكامل على الصلح ودخل إلى دمياط في أبهة محاطا بأخوته وبالقادة معه وجاء الملوك الإفرنج وأطلق كل جانب رهائنه وأسراه، وتم الاتفاق على هدنة لثمانية أعوام، وهكذا انتهت الحملة الصليبية الخامسة بعد أن قضى الإفرنج في دمياط وعلى شاطئيها ثلاثة أعوام وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما.
الحملة السابعة:
بعد هذه الحملة بثلاثين عاما تقريبا جاءت الحملة الصليبية السابعة، وإذا كانت الحملة الصليبية الخامسة قد انطلقت من الشام فإن الحملة السابعة انطلقت من فرنسا بقيادة الملك لويس التاسع المعروف بالملك القديس (سان لويس) لما عرف عنه من تدينه الذي كان دافعه على القيام بهذه الحملة التي تشبه في بدايتها ومسارها إلى حد كبير سابقتها الحملة الخامسة،
جاء الملك لويس التاسع أو الملك القديس من فرنسا على رأس أسطول ضخم يزيد على 1800 سفينة تحمل 80 ألف مقاتل وفي طريقها تعرضت لرياح عاصفة اضطرت حوالي 700 سفينة إلى الانفصال والجنوح إلى شواطئ الشام، نزلت القوات في البر الغربي في يونيو ١٢٤٨ بقيادة الملك لويس وعلى الجانب الإسلامي كان الملك الصالح نجم الدين الأيوبي والذي كان مريضا ومقيما بأشموم طناح وكانت القيادة الميدانية للأمير فخر الدين الذي أرسل الحمام الزاجل إلى السلطان الملك الصالح عن وصول الحملة ولما لم يتلق رداً تصور أن الملك قد مات وقام بانسحاب غير منظم والذهاب إلى أشموم طناح فأصبح الطريق خاليا للجانب الفرنسي فدخلوا دمياط دون مقاومة واحتلوها وكانت هناك الفظائع التي تعرضت لها المدينة وأهلها والتي سجلها التاريخ.
جاء تطور خطير عندما وصل الخبر بوفاة الملك الصالح يوم 22 نوفمبر 1248 فكانت الطامة الكبرى كما قال الدكتور الشيال ص 32 “إلا أن القدر هيأ لمصر في تلك الساعة امرأة حاسمة هي شجرة الدر زوجة الملك الصالح التي اخفت خبر موت السلطان وعهدت للأمير فخر الدين بالقيادة حتى جاء الملك توران شاه ابن الملك الصالح من الشام في شهر أبريل 1249، وأخذ توران شاه بمساعدة المماليك البحرية في الاستعداد للمعركة التي انتهت بإيقاع جيوش الملك القديس لويس التاسع بمدينة فارسكور جنوب دمياط بحوالي 17 كم. وكان قد قتل من فرسانه أكثر من عشرة آلاف فارس وتم أسر حوالي مائة ألف من الخيالة والرجالة والصناع.
لم يجد الملك لويس أمامه سوى أن يعتلي تلاً مع قواده ويطلب الأمان فأمنوا وأسر الملك القديس وقواته وحملوا من فارسكور إلى المنصورة وبقي سان لويس بدار ابن لقمان في المنصورة.
ولعله من مفارقات التاريخ أن بعد هذا الحادث بخمسة وعشرين يوما جرى صراع بين الملك توران شاه وبين قادة الممالك البحرية الذي كان لهم فضل كبير في إلحاق الهزيمة بقوات الإفرنج وتبين لقادة المماليك البحرية أن توران شاه يعتزم التخلص منهم فسبقوه، وكان مقيما في مبنى عال بفارسكور وأطلقوا النار فألقى بنفسه نحو النيل فلحقوا به وقتلوه في مايو 1250، م وتم تولية شجرة الدر لفترة وجيزة ملكا على مصر ثم تولى المماليك البحرية الحكم وهكذا انتهت الحقبة الأيوبية وبدأت حقبة المماليك البحرية.
وقد سبق أن سجلت في حديثي عن مكتبة المنصورة مشهد رحيل الملك لويس التاسع ودفع الفدية ولقاءه بزوجته مارجريت دبروفانتس حاملة رضيعها وجرى لقاؤهما خارج بوغاز دمياط (أي خارج المصب).
كان للحملتين الخامسة والسابعة اللتين وقعتا في النصف الأول من القرن الثالث عشر تداعيات كبيرة وقد نشأت هذه التداعيات أساسا مما أصاب الفكر الاستراتيجي لدى الحاكم الأيوبي الكامل محمد الذي رأى نقل خط الدفاع الأول عن مصر من دمياط لتكون المنصورة هي البديل لدمياط. ثم اتخاذه للقرار العجيب عام 1227 بهدم ميناء ومدينة تنيس الواقعة على بحيرة تنيس (المنزلة) فأزيلت هذه المدينة العظيمة التي كانت أيقونة لما مثلته كعاصمة للنسيج الراقي بحيث كانت هي التي تنسج كل عام كسوة الكعبة المكرمة وكان الملوك يتباهون بارتداء ثياب مصنوعة بتنيس وبعد أن أزيلت هذه المدينة تماما من الوجود.
جاء حكم المماليك البحرية فاتفقوا على تخريب دمياط أسوة بما جرى بتنيس وكما قال دكتور الشيال “أرسلوا حزمة من الحجارين والفعلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين 18 من شعبان ٦٤٨ هجري حتى خربت دمياط بالكامل وهدمت جميعها بأسوارها وقلاعها وقصورها ولم يبق منها سوى الجامع الكبير الذي يعرف حتى الآن باسم جامع أبو المعاطي.
ولكن دمياط استطاعت أن تنهض من جديد ويشهد الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة عندما زار دمياط في القرن الرابع عشر وصف دمياط بأنها “مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب” (ص 41 كتاب مجمل تاريخ دمياط للدكتور الشيال).
كما جاء المؤرخ الشهير المقريزي في القرن الخامس عشر ووصف دمياط بأنها “أحسن بلاد الله منظرا” وأنشد قصيدة عن دمياط وصف فيها مرج البحرين:
“وفي مرج البحرين جم عجائب تلوح وتبدو من قريب ومن بعد”
كما جاء الرحالة الفرنسي سفاري ووصف كيف أصبحت مدينة كبيرة قبل الحملة الفرنسية بحوالي عشرين عاما أي عام 1778 وأمضى بها ثلاثة سنوات وأعجبته دمياط فمكث فيها 14 شهرا ويقول “لقد طفت ألف مرة في تلك الأرباض الشاهقة بهذه المدينة ولم يكن من المستطاع أن يشبع المرء من طبيعتها الحسنة ومرأى الصورة البهية للمصب ثم بحيرة المنزلة ووصف الطيور التي تحل بها وصفا رائعا. (كتاب نقولا يوسف ص ٢٢٧ إلى ص ٢٣٢)
وللحديث بقية
السفير عبد الرءوف الريدي
رئيس مجلس إدارة مكتبة مصر العامة

الصور من كتاب الدكتور جمال الدين الشيال “مجمل تاريخ دمياط”